سورة الجن - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الجن)


        


قوله تعالى: {قل أُوحيَ إليَّ أنه استمع نَفَرٌ من الجن} قد ذكرنا سبب نزول هذه الآية في [الأحقاف: 29] وبَيَّنَّا هنالك سبب استماعهم. ومعنى النفر وعَدَدَهم، فأما قوله تعالى: {قرآناً عجبا} فمعناه: بليغاً يعجب منه لبلاغته {يهدي إلى الرُّشد} أي: يدعو إلى الصواب من التوحيد والإيمان {ولن نشرك بربنا} أي: لن نعدل بربنا أحداً من خلقه. وقيل: عنوا إبليس، أي: لا نطيعه في الشرك بالله.
قوله تعالى: {وأنه تعالى جَدُّ رَبِّنا} اختلف القراء في اثنتي عشرة همزة في هذه السورة، وهي: {وأنه تعالى}، {وأنه كان يقول}، {وأنا ظننا}، {وأنه كان رجال}، {وأنهم ظنوا}، {وأنا لمسنا}، {وأنا كنا}، {وأنا لا ندري}، {وأنا منا}، {وأنا ظننا أن لن نعجز الله}، {وأنا لما سمعنا}، {وأنا منا}، ففتح الهمزة في هذه المواضع ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم، ووافقهم أبو جعفر في ثلاثة مواضع {وأنه تعالى}، {وأنه كان يقول}، {وأنه كان رجال}، وكسر الباقيات. وقرأ الباقون بكسرهن. وقال الزجاج: والذي يختاره النحويون في هذه السورة أن ما كان من الوحي قيل فيه أن بالفتح، وما كان من قول الجن قيل إن بالكسر. معطوف على قوله تعالى: {إنا سمعنا قرآناً عجباً} وعلى هذا يكون المعنى: وقالوا: إنه تعالى جَدُّ ربنا، وقالوا: إنه كان يقول سفيهنا. فأما من فتح، فذكر بعض النحويين: يعني الفراء، أنه معطوف على الهاء في قوله تعالى: {فآمنا به} وبأنه تعالى جَدُّ رَبِّنا. وكذلك ما بعد هذا. وهذا رديء في القياس، لا يعطف على الهاء المتمكّنة المخفوضة إلا بإظهار الخافض. ولكن وجهه أن يكون محمولاً على معنى أمنَّا به، فيكون المعنى: وصدَّقْنا أنه تعالى جَدُّ رَبِّنا. وللمفسرين في معنى {تعالى جَدُّ رَبِّنا} سبعة أقوال.
أحدها: قُدْرَةُ رَبِّنا، قاله ابن عباس.
والثاني: غِنى رَبِّنا، قاله الحسن.
والثالث: جَلاَلُ رَبِّنا، قاله مجاهد، وعكرمة.
والرابع: عَظَمَةُ رَبِّنا، قاله قتادة.
والخامس: أَمْرُ رَبِّنا، قاله السدي.
والسادس: ارتفاع ذِكره وعظمته، قاله مقاتل.
والسابع: مُلْكُ رَبِّنا وثناؤه وسلطانه، قاله أبو عبيدة. {وأنه كان يقول سفيهنا} فيه قولان:
أحدهما: أنه إبليس، قاله مجاهد، وقتادة.
والثاني: أنه كفارهم، قاله مقاتل. والشطط: الجَوْر، والكذب، وهو: وصفه بالشريك، والولد. ثم قالت الجن {وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً} وقرأ يعقوب: {أن لن تَقَوَّلَ} بفتح القاف، وتشديد الواو. والمعنى: ظنناهم صادقين في قولهم: لله صاحبة وولد، وما ظننَّاهم يكذبون حتى سمعنا القرآن، يقول الله عز وجل {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن} وذلك أن الرجل في الجاهلية كان إذا سافر فأمسى في قفر من الأرض قال: أعوذ بِسِّيدِ هذا الوادي من شَرِّ سُفَهَاءِ قومه، فيبيت في جِوارٍ منهم حتى يصبح.
ومنه حديث كردم بن أبي السائب الأنصاري، قال خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، وذلك أول ما ذُكِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب، فأخذ حملاً من الغنم، فوثب الراعي فنادى: يا عامر الوادي جارك، فنادى منادٍ لا نراه: يا سرحان أرسله. فإذا الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم {وأنه كان رجال من الإنس...} الآية.
وفي قوله تعالى: {فزادوهم رهقاً} قولان:
أحدهما: أن الإنس زادوا الجن رهقاً لتعوُّذهم بهم، قاله مقاتل. والمعنى: أنهم لما استعاذوا بسادتهم قالت السادة: قد سدنا الجن والإنس.
والثاني: أن الجن زادوا الإنس رَهَقاً، ذكره الزجاج. قال أبو عبيدة: زادوهم سَفَهَاً وطغياناً. وقال ابن قتيبة: زادوهم ضلالاً. وأصل الرهق: العيب. ومنه يقال: فلان يرهق في دينه.
قوله تعالى: {وأنهم ظنوا} يقول الله عز وجل: ظن الجن {كما ظننتم} أيها الإنس المشركون أنه لا بعث. وقالت الجن: {وأنا لمسنا السماء} أي: أتيناها {فوجدناها ملئت حَرَساً شديداً} وهم الملائكة الذين يحرسونها من استراق السمع {وشُهُباً} جمع شهاب، وهو النجم المضيء {وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع} أي: كنا نستمع، فالآن حين حاولنا الاستماع بعد بعث محمد صلى الله عليه وسلم، رُمِينا بالشُّهُب. ومعنى: {رصداً} قد أرصد له المرمى به {وأنا لا ندري أَشَرٌّ أريدَ بمن في الأرض} بإرسال محمد إليهم، فيكذبونه فيهلكون {أم أراد بهم ربهم رشداً} وهو أن يؤمنوا فيهتدوا، قاله مقاتل. والثاني: أنه قول كفرة الجن، والمعنى: لا ندري أشرٌّ أريدَ بمن في الأرض بحدوث الرجم بالكواكب، أم صلاح؟ قاله الفراء. ثم أخبروا عن حالهم، فقالوا: {وأنا مِنَّا الصالحون} وهم المؤمنون المخلصون {ومِنَّا دون ذلك} فيه قولان:
أحدهما: أنهم المشركون.
والثاني: أنهم أهل الشرِّ دون الشرك {كنَّا طرائق قدداً} قال الفراء: أي: فرقاً مختلفة أهواؤنا. وقال أبو عبيدة: واحد الطرائق: طريقة، وواحد القِددِ: قدة، أي: ضروباً وأجناساً ومِلَلاً. قال الحسن، والسدي: الجن مثلكم فمنهم قَدَرِيَّة، ومرجِئَةٌ، ورافضة.
قوله تعالى: {وأنا ظننا} أي: أيقنَّا {أن لن نعجز الله في الأرض} أي: لن نَفُوتَه إِذا أراد بنا أمراً {ولن نعجزه هَرَباً} أي: أنه يدركنا حيث كنَّا {وأنا لمَّا سمعنا الهدى} وهو القرآن الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم {آمنَّا به} أي: صدَّقنا أنه من عند الله عز وجل {فمن يؤمنْ بربه فلا يخاف بخساً} أي: نقصاً من الثواب {ولا رَهَقاً} أي: ولا ظلماً ومكروهاً يغشاه، {وأنا منَّا المسلمون} قال مقاتل: المخلصون لله {ومِنَّا القاسطون} وهم المَرَدَة. قال ابن قتيبة: القاسطون: الجائرون. يقال: قسط: إذا جار، وأقسط: إذا عدل.
قال المفسرون: هم الكافرون {فمن أسلم فأولئك تَحَرَّوا رشداً} أي: تَوَخَّوْه، وأَمَّوْه. ثم انقطع كلام الجن. قال مقاتل: ثم رجع إلى كفار مكة فقال تعالى: {وأن لو استقاموا على الطريقة} يعني طريقة الهدى، وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والسدي، واختاره الزجاج. قال لأن الطريقة هاهنا بالألف واللام معرفة، فالأوجب أن تكون طريقة الهدى. وذهب قوم إلى أن المراد بها: طريقة الكفر، قاله محمد بن كعب، والربيع، والفراء، وابن قتيبة، وابن كيسان. فعلى القول الأول يكون المعنى: لو آمنوا لوسَّعنا عليهم {لِنَفْتِنَهم} أي: لنختبرَهم {فيه} فننظر كيف شُكْرُهم. والماء الغَدَق: الكثير. وإنما ذكر الماء مثلاً، لأن الخير كله يكون بالمطر، فأقيم مقامه إِذ كان سببه وعلى الثاني يكون المعنى: لو استقاموا على الكفر فكانوا كفاراً كلهم، لأكثرنا لهم المال لنفتنهم فيه عقوبة واستدارجاً، ثم نعذبهم على ذلك. وقيل لأكثرنا لهم الماء فأغرقناهم، كقوم نوح {ومن يُعْرِضْ عن ذِكْرِ ربِّه} يعني: القرآن {يسلكْه} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر {نسلكه} بالنون. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بالياء. {عذاباً صعداً} قال ابن قتيبة: أي: عذاباً شاقاً، يقال: تصعَّدني الأمر: إذا شَقَّ علي. ومنه قول عمر: ما تَصَعَّدني شيء ما تصعَّدَتني خِطْبَةُ النِّكاح. ونرى أصل هذا كله من الصعود، لأنه شاق، فكني به عن المشَقَّات. وجاء في التفسير أنه جبل في النَّار يكلَّف صعوده، وسنذكره عند قوله تعالى: {سأرهقه صعوداً} [المدثر: 17] إن شاء الله تعالى.


قوله تعالى: {وأن المساجد لله} فيها أربعة أقوال.
أحدها: أنها المساجد التي هي بيوت الصلوات، قاله ابن عباس. قال قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبِيَعَهُم أشركوا، فأمر الله عز وجل المسلمين أن يخلصوا له إذا دخلوا مساجدهم.
والثاني: الأعضاء التي يسجد عليها العبد، قاله سعيد بن جبير، وابن الأنباري، وذكره الفراء. فيكون المعنى، لا تسجدوا عليها لغيره.
والثالث: أن المراد بالمساجد هاهنا: البقاع كلُّها، قاله الحسن. فيكون المعنى: أن الأرض كلها مواضع للسجود، فلا تسجدوا عليها لغير خالقها.
والرابع: أن المساجد: السجود، فإنه جمع مسجد. يقال: سجدت سجوداً، ومَسْجِداً، كما يقال: ضربت في الأرض ضرباً، ومَضْرِباً، ثم يجمع، فيقال: المسَاجِد، والمضارِب. قال ابن قتيبة: فعلى هذا يكون واحدها: مَسْجَداً، بفتح الجيم. والمعنى: أَخْلِصُوا له، ولا تسجدوا لغيره. ثم رجع إلى ذكر الجن فقال تعالى: {وأنه لما قام عبد الله} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {يدعوه} أي: يعبده. وكان يصلي ببطن نخلة على ما سبق بيانه في [الأحقاف: 29] {كادوا يكونون عليه لِبَداً} قرأ الأكثرون: {لبداً} بكسر اللام، وفتح الباء. وقرأ هشام عن ابن عامر، وابن محيصن {لُبَداً} بضم اللام، وفتح الباء مع تخفيفها. قال الفراء: ومعنى القراءتين واحد. يقال: لِبَدة، ولُبَدة. قال الزجاج: والمعنى: كاد يركب بعضهم بعضاً. ومنه اشتقاق اللبد الذي يفترش. وكل شيء أضفته إلى شيء فقد لَبَّدته. وقرأ قوم منهم الحسن، والجحدري: {لُبَّداً} بضم اللام مع تشديد الباء. قال الفراء: فعلى هذه القراءة يكون صفة للرجال، كقولك: رُكَّعاً وركوعاً، وسُجَّداً وسجوداً. قال الزجاج: هو جمع لابد، مثل راكع، وركَّع. وفي معنى الآية ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه إخبار الله تعالى عن الجن يحكي حالهم. والمعنى: أنه لما قام يصلي كاد الجن لازدحامهم عليه يركب بعضهم بعضاً، حِرْصاً على سماع القرآن، رواه عطية عن ابن عباس.
والثاني: أنه من قول الجن لقومهم لما رجعوا إليهم، فوصفوا لهم طاعة أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع، والسجود، فكأنهم قالوا: لما قام يصلي كاد أصحابه يكونون عليه لبداً. وهذا المعنى في رواية ابن جبير، عن ابن عباس.
والثالث: أن المعنى: لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدَّعوة تلبَّدت الإنس والجن، وتظاهروا عليه، ليبطلوا الحق الذي جاء به، قاله الحسن، وقتادة، وابن زيد.
قوله تعالى: {قل إنما أدعوا ربي} قرأ عاصم، وحمزة: {قل إنما أدعو ربي} بغير ألف. وقرأ الباقون {قال} على الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال مقاتل: إن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك جئت بأمر عظيم، لم يسمع بمثله فارجع عنه، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: {قل لا أملك لكم ضراً} أي: لا أدفعه عنكم {ولا} أسوق إليكم {رَشَداً} أي: خيراً، أي: إن الله تعالى يملك ذلك، لا أنا {قل إني لن يجيرني من الله أحد} أي: إن عصيته لم يمنعني منه أحد، وذلك أنهم قالوا: اترك ما تدعو إليه، ونحن نجيرك {ولن أجد من دونه ملتحداً} وقد بيَّنَّاه في [الكهف: 27] {إلا بلاغاً من الله} فيه وجهان، ذكرهما الفراء.
أحدهما: أنه استثناء من قوله تعالى {لا أملك لكم ضراً ولا رشداً} إلا أن أبلغكم.
والثاني: لن يجيرني من الله أحد إِن لم أبلِّغ رسالته. وبالأول قال ابن السائب. وبالثاني: قال مقاتل. وقال بعضهم: المعنى: لن يجيرني من عذاب الله إلا أن أبلّغ عن الله ما أُرسِلْتُ، فذلك البلاغ هو الذي يجيرني {ومن يعص الله ورسوله} بترك الإيمان والتوحيد.
قوله تعالى: {حتى إذا رأَوْا} يعني: الكفار {ما يوعدون} من العذاب في الدنيا، وهو القتل. وفي الآخرة {فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً} أي: جنداً ونصراً، أهم، أم المؤمنون؟ {قل إن أدري} أي: ما أدري {أقريب ما توعدون} من العذاب {أم يجعل له ربي أمداً} أي: غاية وبُعْداً. وذلك لأن علم الغيب لله وحده {فلا يُظهِر} أي: فلا يُطلِع على غيبه الذي يعلمه أحداً من الناس {إِلا من ارتضى من رسول} لأن من الدليل على صدق الرسل إخبارَهم بالغيب. والمعنى: أن من ارتضاه للرسالة أطلعه على ما شاء من غيبه. وفي هذا دليل على أن من زعم أن النجوم تدل على الغيب فهو كافر. ثم ذكر أنه يحفظ ذلك الذي يطلع عليه الرسول فقال تعالى: {فإنه يسلك من بين يديه} أي: من بين يدي الرسول {ومِن خلفه رَصَداً} أي: يجعل له حَفَظَةً من الملائكة يحفظون الوحي من أن تَسْتَرِقَه الشياطين، فتلقيه إلى الكَهَنة، فيتكلَّمون به قبل أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم الناس. وقال الزجاج: يسلك من بين يَدَيْ الملَك ومن خلفه رصداً. وقيل يسلك من بين يدي الوحي. فالرُّصَّدُ من الملائكة يدفعون الشياطين عن أن تستمع ما ينزل من الوحي.
قوله تعالى: {ليعلم} فيه خمسة أقوال.
أحدها: ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أن جبرائيل قد بلَّغ إليه، قاله ابن جبير.
والثاني: ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أن الرسل قبله {قد أبلغوا رسالاتِ رِّبهم} وأن الله قد حفظها فدفع عنها، قاله قتادة.
والثالث: ليعلم مكذبو الرسل أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم، قاله مجاهد.
والرابع: ليعلم الله عز وجل ذلك موجوداً ظاهراً يجب به الثواب، فهو كقوله تعالى: {ولمَّا يعلمِ الله الذين جاهدوا منكم} [آل عمران: 142] قاله ابن قتيبة.
والخامس: ليعلم النبيُّ أن الرسل قد أتته، ولم تصل إلى غيره، ذكره الزجاج. وقرأ رويس عن يعقوب {ليُعْلَم} بضم الياء على ما لم يسم فاعله. وقال ابن قتيبة: ويُقرأ {لتَعْلَم} بالتاء، يريد: لتعلم الجن أن الرسل قد بلَّغت عن إلههم بما رَجَوْا من استراق السمع {وأحاط بما لديهم} أي: علم الله ما عند الرسل {وأحصى كل شيء عدداً} فلم يفته شيء حتى الذَّرّ والخردل.